أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

المواضيع الحديثة

احدث المواضيع التربوية والعلمية تجدونها في هذه المدونة

الجمعة، 15 أغسطس 2014

الفلسفة والتربية ---------- وفلسفة التربية

الفلسفة والتربية، وفلسفة التربية

إن المتصفح لأدبيات البحث التربوي – خاصة في مجال أصول التربية- يجد الحقيقة المذهلة أن الباحثين قد أداروا ظهرهم، إلى حد كبير، للبحث في فلسفة التربية أو البحوث النظرية في مقابل البحوث الميدانية وبالذات بحوث الاستبيانات !!! وربما يرجع ذلك إلى صعوبة البحوث النظرية الفلسفية في تصميمها وأدواتها والمهارات اللازمة للقيام بها، وفي نفس الوقت سهولة الدراسات الميدانية، أو هكذا يتصور الكثير من الباحثين.
ولذلك قل أن نجد اهتماماً بالتحليلات الفلسفية للمفاهيم أو الأهداف أو السياسات التربوية، حتى مقررات فلسفة التربية، التي تدرس في كليات التربية والكتب التي تتناولها لا تزيد عن كونها عرض لآراء الفلاسفة ونظرياتهم، مهملة تماماً كيف توصل كل منهم إلى ما وصل إليه، أي كيفية صناعة الفكر أو طريقة التفكير، وكيف يمكن الحكم عليها.
وربما كانت مشكلة الباحثين في ذلك قلة المادة العلمية المتوفرة في هذا الصدد وربما كانت للاعتقاد بأن الفلسفة شئ غير ضروري وغير مفيد، وربما يسهم في تلك المشكلة التعلق بما يفهم خطأ على أن البحث العلمي يجب بالضرورة أن يكون ميدانياً، ولكن دراسة الواقع الميداني لا يمكن أن يكون علمياً إلا إذا اعتمد على تصور عقلي سابق.
ومن هنا فإن البحث الفلسفي ضرورة لكل محاولة علمية لفهم الظواهر التربوية، ولهذا كانت رغبة الباحث في تقديم سلسلة من الدراسات تقدم البحث الفلسفي للباحثين، وبديهي أن نبدأ هذه السلسلة بتوضيح المجال الواسع لهذه الدراسة والآمال المعقودة عليه في عمليات الإصلاح التعليمي أو تطوير التعليم في مجتمعنا.
نشأة الفلسفة:
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان كائناً مفكراً، وزوده بالطاقات والقوى والأعضاء المساعدة التي تمكنه من تحصيل المعرفة فخلق له السمع والبصر والفؤاد وخلق له القلب واللسان واليدين وجهازه العصبي والحسي وما إلى ذلك بل وفضله على سائر المخلوقات، بما فيهم الملائكة – بالعلم، حيث أنعم على آدم بتعليمه الأسماء كلها قال تعالى: "وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال  أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون". وهذا هو الذي يدعم ما ذهب إليه علماء النفس المحدثون عندما يقولون إن حب الاستطلاع دافع فطري عند الإنسان.
وقد استخدم الإنسان تفكيره منذ ظهوره على سطح الأرض، فكان مشغولاً في أول الأمر بالتفكير في وسائل حفظ بقائه واستمرار حياته بالبحث عن الطعام والمأوى والكساء – أي كان مشغولاً بإشباع حاجاته البيولوجية الأساسية، وزاد من عنائه أن بيئته لم تكن كريمة معه ولا سخية عليه ولا رحيمة به.
وما أن استطاع أن يؤمن قوت نفسه ويوفر الحماية والبقاء؛ أخذ ينعم بقسط من الراحة وتبقى من يومه وقتاً يخلد فيه إلى نفسه... بدأ يفكر فيما حوله من ظواهر وما يحيط به من أشياء وكان أول من شغل تفكيره هو استفساره عن نفسه ... من أنا؟ وكيف وجدت؟ وما هذه الحياة التي أحياها؟ وهل هناك حياة بعد الموت؟ ومن الذي أوجدني؟ وأين هو؟ وما صفاته؟ وغير ذلك من التساؤلات المحيرة والاستفسارات المؤرقة.
وكان من الطبيعي في مطلع تاريخ البشرية أن تكون خبرات الإنسان محدودة وقدرته على التفكير المجرد قاصرة... ولذا راح يفترض الإجابات على شكل أشياء حسية أولاً ثم على شكل قوى خفية وراء هذه الماديات يعجز عن معرفتها وليس أمامه إلا أن يرمز لها بأشياء حسية، ومهما يكن من أمر الإجابات التي توصل إليها.. فقد كانت أولية بسيطة من نسيج خياله الساذج صاغها ليريح بها نفسه.
وفي مرحلة تالية نجح الإنسان في صياغة هذه الخيالات وحرص على تعليمها لأبنائه، وكان أول صياغة لها على هيئة ما نسميه "الأساطير" Myth وكانت هذه الأساطير هي أدب الإنسان الأول وفكره وعقيدته.. في كل متوائم مع حياته البسيطة وخبرته المتواضعة، وعن طريق التربية وأساليبه في تنشئة أبنائه ودعم الطقوس والممارسات والرقصات المقدسة المرتبطة بخياله الأسطوري فتحولت بذلك إلى معتقدات يؤمن بها ويتحمس للدفاع عنها ويحرص على نقلها إلى أبنائه وأحفاده من بعده... وهكذا اكتسبت هذه المعتقدات قوة الدين وراح الشعراء ينشدون الأهازيج ويرددون الترانيم التي صارت فيما بعد جزءاً من العبادة الوثنية للديانات القديمة.
وقد اكتسبت العقائد الدينية مكانة خاصة في حضارات الشرق القديم في مصر وفارس وبابل والهند والصين، حيث ارتبطت الديانات بشخصية الحكام والأباطرة الذين أصبحوا جزءاً من العقيدة، ولذلك لم يكن في الإمكان مناقشة تلك المعتقدات بل طاعتها بدون أدنى مناقشة.. وإلا تعرض الواحد منهم للهلاك والقتل، ولذا كان الدين من أهم مقومات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الشرقية القديمة.
أما في أوروبا فقد كانت أهم التجمعات البشرية في بلاد الإغريق (اليونان القديمة)، وهي بلاد ذات طبيعة جبلية وبيئة فقيرة، لم تسمح سوى بتجمعات قليلة من البشر في أماكن محددة من الوديان، والسهول الضيقة. وقد أنتجت هذه البيئة الجغرافية مجتمعاً بشرياً يتميز بعلاقاته المباشرة بين أفراد المجتمع الواحد، وبينهم وبين حكامهم، وقد أفرز كذلك نظاماً سياسياً قوامه الدولة/ المدينة City State حيث كانت كل مدينة (مهما صغرت) دولة خاصة لها قوانينها وآلهتها ومعتقداتها. وكان من الطبيعي في ظل العلاقات الاجتماعية المباشرة أن تسود روح الحوار والمناقشة في معالجة القضايا اليومية والمصيرية على السواء، وتمتع كل فرد بحق إبداء الرأي والمشاركة بحرية تامة في عمليات اتخاذ القرارات المجتمعية العامة، وصار ذلك سمة واضحة تميز الإنسان الإغريقي، مما سمح بظهور نهضة فكرية راقية في بلاد الإغريق وخاصة في شمالها الشرقي قرب آسيا الصغرى جنوباً حتى أثينا منذ القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وكانت الزعامة الفكرية في أول الأمر في أيدي الشعراء من أمثال هوميروس Homerus صاحب الإلياذة والأوديسا الشهيرتين، وهزيود Hesiod الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد. ومن أهم أعماله قصيدة الأعمال والأيام وقصيدة درع هرقليس. وقد ظلت هذه الأشعار قروناً طويلة أساساً للتربية والتعليم في بلاد اليونان بل سميت قصائد هرمر. بإنجيل اليونان، وكان للدين عندهم مثل كل مجتمعات العالم القديم شأن كبير باعتبار أن الآلهة هم حماة المدن.
وكان من نتيجة التحول السياسي الذي شهدته اليونان القديمة نحو تعميق الديمقراطية وظهور شخصية الفرد، الجرأه في مناقشة المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد القديمة، والثورة عليها وتبع ذلك محاولات عديدة لاستبدالها بنظم وأفكار جديدة تنبع من العقل البشري وترضى حاجاته وتتفق مع رغبته في الاقتناع، الأمر الذي أدى إلى نوع من الاضطراب السياسي والاجتماعي صاحبهما خوف شديد من غضب الإلهة مما دفع إلى ظهور جماعة من رجال الدين يدافعون عن الآلهة والاعتقاد في سطوتهم ويحذرون الناس من ويلات الثورة على سلطانهم.
وقد شهدت الفترة ما بين القرن السابع والسادس قبل الميلاد ظهور ديانات جديدة مثل دين الإله ديونيسوس Dionisus وهو إله الخير الذي يمثله روح الإنسان الخيرة والذي يصارع مجموعة من آلهة الشر يسمون بالطبطان ويقابلها جسد الإنسان وهذا بدوره أدى إلى زيادة موجة الشك حجة وقوة وعنفاً ضد الآلهة لم يسلم من الألهة واحد من النقد والتجريح والتشكيك من "تزوس" القديم إلى أبولو إلى فينوس إلى مارس إلى ديونيسوس نفسه.
ولم يقتنع الإغريق بعبادة الظواهر الكونية أو التماس آلهة يجب تقديسها، بل ذهبوا يبحثون عن الأسباب والعلل الكامنة وراء هذا الوجود الفسيح، وهكذا بدأ الفكر اليوناني ينتقل من التفكير في الماديات والتماس أسباب محسوسة للظواهر الكونية وأخذ يفترض وجود قوى وراء هذه الماديات وأرواح عليا وأفكار مجردة تفسر نظام الكون يتطرق إلى طبيعة الإنسان والكون وإلى خالقه وإلى العدالة والفضيلة وما إلى ذلك من المفاهيم بفكر جديد يخضع لدواعي العقل.. وهكذا تزايدت موجه الشك في الدين والأخلاق والدولة والمجتمع كله، وكان ظهور هذه الموجة الحادة أولاً في إقليم أيونيا Lonan (قرب آسيا الصغرى) ثم في أثينا حوالي القرن السادس قبل الميلاد. وقد ساعد على ذلك ازدياد الثروة في هذه المنطقة بسبب رواج النشاط التجاري والملاحي بها.
ومن أهم المفكرين الذين ظهروا في تلك الفترة طاليس Thales (631 – 550 ق.م) وأهتم بالبحث عن المادة الأصلية التي يتكون منها الكون ورأى أن الماء هو أصل الأشياء وأصل الحياة وأصل الكون، وبذلك كان أول إنسان فسر الكون لا بالأساطير ولا بقوة الآلهة المتعددة كما فعل السابقون، بل على أساس من الملاحظات التي أدت إلى نتائج يقبلها العقل البشري، ولذا خلع البعض على طاليس لقب "أبو الفلسفة" لأن محاولته هذه كانت أول محاولة لفهم الكون وأصله بمنطق جديد ووجه أنظار من جاءوا من بعده إلى اتخاذ أصل الكون محوراً لتفكيرهم.
ومهما يكن من أمر رأي طاليس أو انسكمندر الذي ذهب إلى أن الهواء هو أصل الكون والحياة أو ديمقريطس بأن الكون يتكون من ذرات، فالجميع هنا كان يتبع نفس الاهتمام الفكري حول المشكلة الأساسية وهي أصل الكون ومادته، وهذا أمر طبيعي يتفق مع مرحلة (الطفولة) في الفكر اليوناني الذي مهد لظهور الفلسفة فيما بعد.
وفي القرنين السادس والخامس ظهر تحول كبير في الفكر اليوناني مع الفيثاغوريين (أتباع مدرسة فيثاغورس) الذيي عابوا التفسير المادي للكون متجهين إلى تفسير مجرد يتمثل في الأعداد. ثم جاء أناكسجوراس Anaxagoras في القرن الخامس معترضاً أنه لا يمكن للمادة أن تنتهي وحدها إلى هذا التناغم والتناسق والجمال الموجودين في الكون، بل لابد من وجود عقل حكيم مدبر يأخذ بها (أي المادة) إلى تلك الغايات في دقة وبصيرة.
وهكذا ظهرت التفرقة بين العقل والجسد وبين الطبيعة والإنسان مما مهد السبيل لبلوغ مرحلة الرشد فيما قبل ظهور الفلسفة مباشرة مع السوفسطائيين الذين  نقلوا مركز الاهتمام إلى الإنسان وجعلوه محور تفكيرهم وتعاليمهم.
والسوفسطائيون جماعة من المعلمين الذين اتجهوا إلى الاشتغال بمهنة التدريس نظير أجر معين على غير عادة الإغريق، ومن أشهرهم بروتاجوراس Protagoras وهيبياس Hippias، وقد استغلوا موجة الشك السائدة آنذاك لتزكية الروح الفردية والأنانية والترويج لمذهب اللذة والمتعة والخروج على المعتقدات الدينية وتحطيم قيود التقاليد والعرف والأخلاق والقوانين، واتخذوا الشباب هدفاً لهم مستخدمين براعتهم في اللغة والتلاعب بالألفاظ في خداع الناس وقلب الحقائق واتخذوا مبدأ جديداً مؤداه أن الإنسان مقياس كل شئ، فقلبوا الأوضاع القديمة رأساً على عقب وسادت الفوضى وانتشرت الرذيلة وعم الفساد.
 ومن الطبيعي أن يكون رد الفعل للسوفسطائيين وآرائهم الانحلالية ظهور طائفة من الناس يدعون إلى التمسك بالتقاليد والعودة إلى المحافظة على المعتقدات الدينية ويحذرون من غضب الآلهة ويسارعون إلى التكفير عن ذنوبهم وذنوب غيرهم بالتقشف والزهد في مباهج الحياة ومتعتها، والتفرغ للعبادة وخدمة الآلهة، وأطلقوا على أنفسهم اسم الحكماء تشبها بالحكماء السبع الذي ظهورا في القرن السابع ق.م ولكن في ثوب ديني جديد.
ووسط هذا الانحدار نحو الهاوية التي كادت أن تعصف بالمجتمع اليوناني في أثينا ظهر سقراط Socrates الذي ولد في أثينا حوالي 470 ق.م فأخذ على عاتقة تفنيد آراء الفريقين المتطرفين المتناقضين، السوفسطائيين والحكماء مستخدماً طريقته في الحوار الذي يبدأ بسؤال ثم التهكم لجهل المسئول ثم التوليد أي توليد معرفة جديدة إلى أن يبين جهل خصومه وأباطيلهم واتخذ لنفسه شعاراً قرأه على معبد دلفي "أعرف نفسك بنفسك". وبعد أن أوضح بطلان مزاعم السوفسطائيين وكسر شوكتهم اتجه إلى الحكماء وعاب عليهم تطرفهم وتزمتهم الشديد الذي بعث الكسل والدعة بين إتباعهم ونشر الخوف والذعر في صفوفهم  وباستمرار الحوار معهم كشف أيضاً أباطيلهم وفساد زعمهم وأنهم يتلقون الحكمة من الآلهة، وأوضح لهم أنهم لا يمكن أن يكونوا حكماء لأن الحكمة من صفات الآلهة وإن كانت الحكمة ممكنة لهم لأصبح هو أحكم الناس كما أخبر بذلك كهنة أبولو في معبد دلفي، وقد كشف الحوار معهم عن جهلهم وعقم تفكيرهم، ومن أقواله الشهيرة "إننا لسنا حكماء ولكننا محبون للحكمة"، ولما كانت كلمة محب في الإغريقية تعني Philo وكلمة حكمة تعني صوفيا Sophia فإن الكلمة تصبح Philosophia التي أصبحت Philosophy في اللغة الإنجليزية ويقابلها بالعربية كلمة "فلسفة" ومعناها محبة الحكمة Love of Wisdom  والحكمة هي المعرفة العميقة المتأنية اليقينية، وهكذا تصبح الفلسفة محبة المعرفة.
فالفلسفة إذن كلمة إغريقية الأصل ومجال للدراسة من صنع الإغريق ووليد جهودهم بعد تطورات فكرية متعاقبة، وهي مدينة بحق إلى سقراط فهو مؤسسها الحقيقي؛ وهو أول مفكر إغريقي قدم لنا بناء فلسفياً متكاملاً في محاوراته التي نقلها إلينا تلميذه أفلاطون، وتبلور موضوع الفلسفة حينئذ ليشمل الكون كله في نظرة كلية تشمل الطبيعة وما وراء الطبيعة، كما تشمل الإنسان الفرد والمجتمع بما فيه من خير وشر وفضيلة ورذيلة وعدل وظلم وجمال وقبح، وكلها مجالات ناقشتها الديانات من قبل وظهرت فلسفة سقراط لتوضح كثيراً من المغالطات القديمة حول آراء السابقين حيالها... وهكذا نشأت الفلسفة في أحضان الدين (الوثني) وتناقش قضاياه... ومن هنا كانت الفلسفة بنت الدين.
وكانت الفلسفة منذ نشأتها الأولى وعاء لكل أنواع المعرفة الإنسانية مهما كان موضوعها ومجالها، ولكن بشرط أن تتميز بالشمول والكلية أي تناقش موضوعات الكون كلها مادية وروحية، محسوسة ومجردة، كما تتميز بالاتساق بحيث لا يوجد تعارض في الرأي تجاه جانب من الكون مع النظرة إلى جانب آخر، كما تتميز الفلسفة أيضاً بالتعمق في البحث عن الأسباب والعلل البعيدة لظواهر الكون وكذا غاياتها العليا، للوصول إلى الحقيقة المطلقة، ومن أهم ما تتميز به الفلسفة كذلك أنها تتخذ التأمل والاستدلال العقلي وسيلة للوصول إلى المعرفة.
معنى الفلسفة:
إن المعنى الحرفي للفلسفة هو محبة الحكمة ولكن الوصول إلى المعنى الفني الاصطلاحي صعب وعسير، يقول الأستاذ أحمد أمين أن الوصول إلى تحديد واضح لمعنى الفلسفة لهو بالأمر العسير، فتعريف الفلسفة اليونانية في مهد نشأتها تختلف عن معنى الفلسفة الحديثة، بل إن تعريفها يختلف من مذهب فلسفي إلى آخر.
وينظر البعض إلى الفلسفة على أنها محاولة التعرف على "الوجود المطلق" وهذا التعريف يرفضه الماديون والطبيعيون الذين يقولون أن معرفة المطلق سواء كان موجوداً أو غير موجود شئ فوق قدرة البشر ولا يجني الإنسان نفعاً من أن يقضي عمره يبحث عن هذا المطلق.
ويعرفها ج.ف نيللر Geurge F. Kneller بأنها "محاولة التفكير بأكثر الطرق عمومية ونظاماً في كل شئ في الكون، أي التفكير في كل الحقيقة.
ومن الناس من ينظر إلى الفلسفة على أنها دراسة المبادئ العامة والعلل البعيدة والغايات العظمى للكون للحصول على تفسير كلي شامل للوجود.
ومنهم من ينظر إلى الفلسفة على أنها البحث عن الجوهر واللا متغير. ويتضح أن هذه التعريفات جميعاً تصدق على الفلسفة القديمة لدى فلاسفة الإغريق وحدهم وأشياعهم في العصور الوسطى إلى حد كبير، أما فلسفة العصر الحديث فلابد أن تكون ذات معنى مختلف تماماً عن المعاني السابقة لقد قطع العلم شوطاً كبيراً في مناقشة كثير من القضايا وانسلخت مجالات ضخمة بكاملها من جسم الفلسفة، وأصبح الناس ينظرون إلى الفلسفة الآن على أنها جهد عقلي منظم مستمر ليجعل من الحياة شيئاً له معنى ويقوم الذكاء بتوجيهه فالفلسفة الحديثة تحاول فهم الواقع بصورة أعمق وتقوم بتحليل الأفكار والمعتقدات والمبادئ التي يقوم عليها نشاط الإنسان في حياته ونقد محاولاته الفكرية وتوجيهها بما يعود على الإنسان بالمنفعة والخير العميم.
أما جون ديوي فيختصر اهتمام الفلسفة الحديثة على مجرد البحث في ماهية القيم واشتقاقها ومصادرها وطبيعتها وكيفية تبريرها وأثرها في تنظيم الخبرة لتصبح ذات نمط واضح مقبول وهكذا تكتسب الفلسفة قيمة في حياتنا العملية ووظيفة في حل الصراعات القيمية والأخلاقية داخل النظام القيمي للمجتمع.
وقد أدى هذا الاختلاف في تحديد معنى الفلسفة إلى تعقد الأمر وتخوف الناس من استعمالها وظن الكثيرون أنها عمل من اختصاص فئة قليلة من الناس تعيش بمعزل عن الآخرين ويستخدمون لغة فنية خاصة بهم يمنعون في اختيار ألفاظ غير مألوفة وعبارات غريبة، كل هذا يمكن أن يتبدد لو حاول الفلاسفة تبسيط لغتهم وتيسير التعامل العادي معهم، وفي حقيقة الأمر فإن الفلسفة لا تزيد عن أن تكون وجهة نظر معينة للفرد نفسه، ولكنها وجهة نظر متعقلة متأنية تبني على درجة من الذكاء والابتكار الفكري تزيد أو تقل، ولكنها في النهاية يجب أن تكون متسقة بعضها مع بعض، وفي النهاية تظل وجهة نظر، فهي معرفة من نوع خاص، معرفة ذكية عميقة تدرك الأسباب وتحدد الغايات من ورائها، فلو أخذنا بتلك النظرة كان أمر الفلسفة سهلاً ميسوراً وأمكننا بعد ذلك النمو في مسارها واكتسبنا القدرة على استخدامها والانتفاع بها، فما أهم وظائف الفلسفة التي يمكننا الاستفادة منها ؟؟

وظائف الفلسفة:
أول وظائف الفلسفة أنها تأملية Speculative أي تعمد على التأمل في الوصول إلى الحقيقة، والتأمل عملية عقلية واعية تستخدم الذكاء الإنساني بحثاً عن الأسباب والعلل البعيدة التي لا نصل إليها إلا من خلال هذا الجهد العقلي المركز، والتأمل يختلف عن الخيال الساذج، والتفكير السطحي، بل هو حدس ذكي على درجة عالية من الذكاء يمكن صاحبه من إدراك الكل رغم تعدد جزئياته ويساعدنا على رسم خريطة لما نتصوره عن العالم المحيط بنا ومكان الإنسان فيه، ويرى جورج نيللر أننا مفطورون على إدراك الكليات وتنظيم إدراكنا لهذه الكليات بصورة تجعلها ذات معنى، فيقول إن العقل الإنساني تحركه رغبة في الاستطلاع ورغبة في النظام، ويضرب لنا على ذلك مثالاً بأننا عندما نقرأ كتاباً نوجه اهتماماً خاصا بطريق مباشر بالطريقة التي نظم بها المؤلف فصول كتابه ونحاول إدراك قضيته ككل قبل أن نتعرف على جزئيات المعلومات في كل صفحة منه. وهكذا يقرر نيللر أن الفلسفة تصدر عن حاجة الإنسان إلى تنظيم أفكاره لكي يجد معنى في كل مملكة الفكر والعقل، وإن هناك خطأ شائع صاحب الرغبة في التخصص الدقيق هو أن الفرد منا يتوهم أنه يمكنه معالجة موضوع معين يتعلق بجزئية ما معالجة شافية عندما يدرسها بمفردها ويعزلها عما سواها، فإن ذلك لا يمكن أن يؤدي إلى معرفة كل جوانبها دون أن يربطها بغيرها من الجزئيات أو دون أن يكون لديه المعرفة اللازمة بما يعنيه الوجود والمعرفة والتقويم والبحث في الأشياء بوجه عام. فالفلسفة إذن تنمي القدرة العقلية على التأمل والإدراك الكلي للأشياء.
والوظيفة الثانية للفلسفة أنها تحليلية وناقدة بمعنى أن من أهم وظائف الفلسفة نقد وتحليل المفاهيم الأساسية للمعرفة الإنسانية مثل الذات أو العلة أو الدافعية أو الميل أو التوافق أو المجتمع أو التربية.. إلخ فكل منها مفهوم له دلالات معينة ومعان خاصة حتى يمكن إزالة التناقضات من تفكيرنا وإيجاد قدر مشترك للتفاهم وتيسير لغة التخاطب بين المستخدمين لهذه المفاهيم. وبالإضافة إلى ذلك تقوم بنقد وتحليل المسلمات والافتراضات التي تقوم عليها المعرفة وخاصة المعرفة العلمية.
وتسيطر هذه الطريقة على الفلسفة الحديثة بصورة ملحوظة جعلتها أهم وظيفة للفلسفة في كل علم من العلوم.
وثمة وظيفة ثالثة تتصل بنتاج الوظيفتين السابقتين وهي أن الفلسفة تقوم بالتوجيه والإرشاد وذلك عندما تصدر حكماً على شئ بأنه حسن وعلى آخر بأنه قبيح، خير أم شر، أخلاقي أو لا أخلاقي، فهي توجه السلوك الإنساني إلى مجموعة من القيم والمثل العليا، والواقع أن حياتنا تصبح عسيرة لو ارتبطت بالواقع وانتظرت هجوم المستقبل عليها دون أن يكون لدينا تصور معين عن "ما ينبغي أن يكون" وكيف يختلف عما هو كائن بالفعل... ومن الضروري كذلك أن نحدد لأنفسنا تلك المعايير التي على أساسها أصبح ما ينبغي أن يكون بالصورة التي هو عليها في عقولنا وهكذا تقدم الفلسفة معياراً أو معايير Norms تجعل للحياة قيمة ومعنى كما تجعل الأمل في حياة أفضل مشرقاً ودافعاً لاستمرار الحياة.
وهكذا من خلال هذه الوظائف الثلاث يتضح معنى الفلسفة في عملها الدائم وسعيها الحثيث نحو المعرفة اليقينية بالتأمل الواعي الذكي المتسق والعميق ونقد وتحليل الواقع والمفاهيم المجردة من أجل توجيه الحياة الإنسانية والانتقال تدريجياً مما هو قائم إلى ما ينبغي أن يكون وفقاً لمعايير وأحكام قيمية معينة.
العلاقة بين الفلسفة والعلم:
ظلت الفلسفة وعاء لكل المعرفة الإنسانية وتتميز بنظرتها الكلية للكون منذ نشأتها في القرن الخامس ق.م وحتى العصور الوسطى الإسلامية، بل إن علماء المسلمين قد تأثروا في عصر الازدهار والترجمة بالفلسفة الإغريقية تأثراً واضحاً وأصبحت الفلسفة الإغريقية تمثل مصدراً من مصادر الثقافة الإسلامية في عصرها الذهبي، ومن هنا كان علماء المسلمين يتميزون بسعة الأفق والتكوين الموسوعي في بنائهم الفكري فكان الواحد منهم فقيهاً في الدين متقناً لفنون الجدل والكلام أديباً طبيباً كيميائيا رحالة (جغرافيا)... إلخ وهكذا كانت نظرتهم إلى الكون والحياة والوجود والإنسان نظرة كلية متسقة مع فارق واضح يميزهم عن الإغريق هو استنباطهم لفلسفتهم من آيات الكتاب والحكمة التي نزلت عن طريق الوحي الإلهي على النبي (صلى الله عليه وسلم)، أما الإغريق فقد افتقدوا هذا المنبع الآمن ولعلنا ندرك بذلك أن لفظي العلم والعالم في القرآن الكريم قرينا الشبه في المدلول بكلمتي الفلسفة والفيلسوف في الإغريقية، إلا أن كلمة علم وعالم كلمات عربية أصيلة لذا جاء استعمالها كثيراً في آيات متفرقة من القرآن الكريم واستبعدت كلمة فلسفة لأنها ليست عربية كما رأينا من قبل والواضح أن كثيراً من علماء المسلمين استخدموا لفظ الفلسفة في كتاباتهم كما استخدموا الطريقة الاستدلالية والقياس في معالجة الكثير من القضايا الدينية.
وظل الأمر كذلك حتى أواخر العصر العباسي الأول وبدايات العصر العباسي الثاني، عندما أعلن الحسن بن الهيثم البصري أن الطريقة الاستدلالية لا تصلح لمعرفة العالم المادي الحسي، وأن خير وسيلة لتحقيق فهم أفضل للواقع المحسوس هي المشاهدة والملاحظة والتحليل والترتيب والتجريب وهو ما سماه بالطريقة الاستقرائية.
وقد أدى انتقال الطريقة الاستقرائية إلى أوربا في العصر الحديث وعصر التنوير أن قفزت العلوم الطبيعية طفرات هائلة سريعة نحو التقدم والدقة في المعرفة عن مجال المادة وخواصها وتصنيفها وتحولها.. إلخ وهكذا أثبتت الطريقة الاستقرائية تفوقها في هذه المجالات الطبيعية وأدى ذلك بدوره إلى استقلال الفيزياء ثم الكيمياء وعلوم الحياة في القرن السابع عشر كعلوم قائمة بذاتها منفصلة بذلك عن جسم الفلسفة وكانت الرياضيات قد سبقت مع ديكارت تلك الموجة الاستقلالية، ثم استتبع ذلك ظهور علم الاجتماع الحديث في القرن التاسع عشر وكذلك علم الإنسان وعلم النفس وعلم التربية ثم السياسة والاقتصاد وكلها كانت موضوعات من مجال الفلسفة القديمة، وهكذا تدلت فروع الشجرة العجوز (الفلسفة) إلى الأرض والتصقت بها لتنمو أشجاراً جديدة متنوعة (علوم حديثة)، وهنا يحق لنا أن نقول "أن الفلسفة التي هي بنت الدين هي أيضاً أم العلوم الحديثة.
وبعد أن انفرطت معظم حبات العقد القديم فماذا تبقى فيه بعد تلك الحركة الاستقلالية؟ وبمعنى آخر: ما المجالات التي تبقت موضوعاً للفلسفة الآن؟ يمكن أن نقول ببساطة إن الفلسفة اليوم تضم أربع مجالات هامة هي:
1-  مجال الوجود: Ontology ويشمل البحث في الطبيعة الإنسانية وطبيعة الحياة وطبيعة الكون وما وراء الطبيعة كما يضم البحث في خالق الوجود وصفاته، وغايات الوجود العليا، وما شابه ذلك من الموضوعات التي لا يمكن التعرف عليها بالتجريب العلمي بل بالتأمل والاستدلال.
2-  طبيعة المعرفة: Epistemology وهو ما يعرف بنظرية المعرفة The Theory of Knowledge وتشمل قدرة العقل الإنساني على تحصيل المعرفة وهل العقل هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الكون أم أن هناك مصادر أخرى للمعرفة وما مدى قدرتها؟ وهل المعرفة ممكنة أصلاً؟ وهل لها حدود تقف عندها؟ ثم لماذا نحصل على المعرفة وما وظيفتها؟
3-  مجال القيم: Axiology وبنفس الطريقة يحاول أن يثير مجموعة من الأسئلة والإجابة عليها مثل: ما طبيعة القيم؟ وما مصدرها؟ الفرد أم المجتمع أم قوة عليا خارجة عنهما؟ هل القيم أزلية؟ أبدية ثابتة؟ أم هي وقتية متغيرة ونسبية؟ وينقسم هذا المجال إلى فرعين: علم الجمال ويتعلق بقيم الجمال ويبحث في معايير القبح والجمال في الأشياء، وعلم الأخلاق ويتعلق بالقيم الخلقية ويبحث في قيم الخير والشر والفضيلة والرذيلة.
4-  المنطق Logic ويضع القواعد العقلية المناسبة للحكم على قضايا التفكير الإنساني بالصدق والكذب، بالصحة والبطلان وفق معايير الاتساق العقلي والقبول "المنطقي" أي تسلسل الأفكار واتساقها وخلوها من التناقض ودقة تنظيمها في كل معرفي مقبول عقلاً.
وهكذا نصل إلى المحور الأول في علاقة الفلسفة بالعلم ويرتبط بكون العلوم أبناء للفلسفة تفرعوا عنها، ومن هنا يمكن القول بأنه إذا كانت الفلسفة كلية في مضمونها وهدفها فإن العلم يتميز بالخصوصية في فهم ظاهرة معينة أو جزئيات معلومة في الواقع، وبينما نجد الفلسفة تأملية استدلالية نجد العلم تجريبي استقرائي والعلم يسلم بوجود الواقع لكن الفلسفة تتساءل عن هذا الوجود وعن ماهيته وعن طبيعته وعن حقيقته وتحاول التعرف على أسبابه وعلله البعيدة وتسأل عن الغايات القصوى أو العليا الموجودة، فهي تبدأ حيث ينتهي العلم.
والعلم من ناحية أخرى يبدأ بملاحظة الجزئيات وصولاً إلى القانون العام الذي يربطها ويفسرها بطريقة استقرائية Inductive  بينما الفلسفة تبحث أولاً عن القانون العام الذي يفسر وجود الكون كله كوحدة متكاملة ثم تنزل استدلالياً نحو الجزئيات ليحدد موقعها من هذا الوجود الكلي Dedication وقد وجد العلم الحديث فائدة كبرى في الاستفادة من الطريقة الاستدلالية في اختبار صحة قوانينه، فتحولت الطريقة العلمية الحديثة في السنوات الأخيرة لتكون استقرائية/ استدلالية معا Both, Inductive and Deductive وليست هذه هي الفائدة الوحيدة التي يجنيها العلم من الفلسفة بل أن الفلسفة تسعى دائماً لتحليل المسلمات التي تقوم عليها النظريات العلمية فالعلم يسلم بصحتها مسبقاً أما الفلسفة فتلجأ إلى تحليلها ونقدها لبيان مدى اتساقها مع بعضها البعض ومدى اتفاقها مع قواعد المنطق، فإذا مرت المسلمات بهذا الاختبار الناقد التحليلي كان ذلك تدعيماً للنظرية العلمية وإلا هدمت النظرية ويبدأ البحث من جديد وهكذا.
ومن ناحية ثالثة تقوم الفلسفة بتوضيح وتحليل معاني الألفاظ والمصطلحات العلمية والمفاهيم المستخدمة في صياغة النظرية، وبذلك تصنع أرضاً مشتركة للتفاهم الإيجابي والحوار بين أبناء التخصص الواحد، وهو تفاهم ضروري للتواصل بينهم من أجل تقدم المعرفة العلمية، وأخيراً يمكن القول بأن الفلسفة تقوم بدور الرقيب على العلم لتحديد مصداقية مسلماته وتحديد مفاهيمه، ولذلك ظهر لكل علم فلسفة خاصة به، فهناك فلسفة العلوم، وفلسفة التاريخ، وفلسفة الفن، وفلسفة التربية... إلخ.
وهناك وجه آخر للعلاقة بين الفلسفة والعلم، حيث يرى البعض أن الفلسفة في سعيها للوصول إلى المعرفة الكلية للوجود وحقيقته وأسبابه البعيدة وغاياته العليا إنما تسعى لتحصيل معرفة مجردة تخلق في الخيال بعيدة عن مشكلات الحياة وروجوا تبعاً لذلك فكرة واهية عن قلة فائدة الفلسفة للحياة المعاصرة بل وعدم جدواها وبالتالي عدم الثقة فيها. وكان من رواد هذه الفكرة الفيلسوف الأمريكي جون ديوي ومن المؤسف أن يذهب مذهبه بعض رجال التربية في مجتمعنا.
أما العلم فيتناول الواقع بالدراسة ويتعقب المشكلات الواقعية بالبحث حتى يصل إلى حلول ناجحة تسهم في إسعاد البشرية، ويسجل أوكونور أسفه لوجود مثل هذا الاتجاه بين الفلاسفة المحدثين فيقول: أن كثيراً من الكتابات تتضمن نقداً هداماً لآراء الفلاسفة العظام من سقراط إلى راسل.. ووصف ذلك بأنه مزعج للغاية، لما يبدو فيه من طبيعة سلبية غير تقدمية للاستقصاء الفلسفي.
وليس لنا اعتراض على أهمية العلم في ترقية حياة الإنسان المعاصر ولكن المقارنة بينه وبين الفلسفة على النحو الذي قدمه ديوي ينطوي على شئ من المغالطة، ذلك أن الفلسفة القديمة نشأت – كما أوضحنا من قبل – استجابة لحاجات المجتمع الأثيني الإغريقي ورغبة في إصلاح مفاسده وحل مشكلاته وخاصة في جوانب السلوك والأخلاق، ولذلك كانت محاورات سقراط محورها الفضيلة ومحاورات أفلاطون محورها مفهوم العدل وكيف يتحقق وسرعان ما تزول الدهشة عندما نتذكر أن ديوي وهو الأمريكي الذي أسهم في بناء الفلسفة البراجماتية يعكس فكر مجتمعه، فالمجتمع الأمريكي يتكون من مجموعة من المهاجرين من شتى بقاع الأرض انفصلت قلوبهم عن أوطانهم الأولى إما بسبب اضطهادهم فيها أو لسوء أوضاعهم الاقتصادية بها، الأمر الذي دفعهم إلى الهجرة منها وهذا في حد ذاته جعل المواطن الأمريكي منفصلاً عن تاريخه القديم، بل لم يكن له مثل هذا التاريخ الذي يعتز به وكان تركيزه على الحاضر والمستقبل ومن هنا كان هجومهم على كل ما هو قديم. ويكفي أن نعيد ما قاله برتراند راسل، يكفي الفلسفة قيمة في العصر الحاضر أنها تساعدنا على الفحص الناقد لمعتقداتنا وانحيازاتنا والأسس التي تقوم عليها أعمالنا.
علاقة الفلسفة بالتربية:
لعله من الواضح لنا الآن أن المناقشات السابقة كان الهدف منها إظهار العلاقة بين الفلسفة والتربية، كعلم من العلوم الحديثة، فالفلسفة منذ نشأتها الأولى ظهرت نتيجة لاحتياجات تربوية، حيث حرص سقراط ومن بعده أفلاطون وارسطو على معالجة مشكلات الواقع المؤلم في أثينا خاصة وبلاد اليونان عامة، عن طريق إعادة بناء "أي تربية" المواطن اليوناني وإصلاح المجتمع الأثيني بعد أن مزقته الأنانية والفردية والحرية الغير منضبطة والتي انقلبت إلى فوضى وإباحية وجرى وراء الملذات والشهوات. والمتصفح لفلسفة أفلاطون يجدها تدور حول مفهوم العدل ومنه إلى الفضيلة وينتهي صرح فلسفة أفلاطون بوضع نظام تربوي لتطبيق تلك الرؤية عن المجتمع الفاضل، وهنا ننتقل إلى جانب آخر من جوانب العلاقة بين الفلسفة والتربية وهو أن الفلسفة "أي فلسفة" تحتاج إلى تربية لنشر تعاليمها وتوضيحها وكسب أنصار لها لتبريرها وتعميق الإيمان بها وقبولها بين أكثر عدد من الناس.
فالفلسفة دون التربية فكر بلا وظيفة.. وبالمثل فإن التربية بلا فلسفة تتحول إلى عمل عشوائي غير منظم وغير هادف وبالطبيعي يكون مصيره إلى الفشل ولذلك قال ديوي إن الفلسفة هي النظرية العامة للتربية وأن التربية هي التطبيق العملي للفلسفة والأدلة على ذلك كثيرة قديماً وحديثاً فمحاورات أفلاطون في مدرسته الأكاديمية Academy وأرسطو عندما أنشأ مدرسته الخاصة المعروفة باسم ليسيم Lycuim  وهتلر في ألمانيا النازية والماركسية في الاتحاد السوفيتي السابق، كلها علامات تدل على أن أية فلسفة لا يقدر لها أن تنتشر إلا بالتربية.
وهناك جانب ثالث من جوانب تلك العلاقة وهو أن قضايا الفلسفة تهم التربية وقضايا التربية غالباً ما تكون قضايا فلسفية، فالفلسفة والتربية كلاهما يسعى لمعرفة طبيعة الإنسان ويتخذ موقفاً من طبيعة الحياة والكون والمعرفة والقيم فهذه محاولات تهم الفلسفة كما تهم التربية أيضاً، وإذا كان البحث في طبيعة المعرفة يعتبر من أهم محاولات الفلسفة فإن المعرفة ذاتها تمثل أحد الأركان الرئيسية في عملية التربية فالفكر التربوي نفسه معرفة تستخدم الفلسفة طريقة والتربية مجالاً كما أن المنهج الدراسي في جزء منه يعتمد على ما وصل إليه المفكرون من معرفة وكذلك الحال فيما يتعلق بالقيم الجمالية، والأخلاقية ومما لا شك فيه أن كلا من التربية والفلسفة يعطي موضوع القيم هذا اهتماماً كبيراً في دراساته.
ويضيف محمد الهادي عفيفي جانباً آخر لتلك العلاقة يتعلق بالمنطق باعتباره علم قواعد التفكير السليم وأن تنمية التفكير السليم هو أحد أهداف التربية.
وإذا انتقلنا من التشابه في الموضوع والمجال والاهتمامات نجد تشابهاً آخر بين الفلسفة والتربية من حيث الأهداف والوظائف فكلاً من الفلسفة والتربية يسعى إلى الارتقاء بالإنسان الفرد وتنمية قدراته وتحقيق التقدم للمجتمع ومساعدته في حل مشكلاته.
وتتمثل العلاقة بين الفلسفة والتربية أيضاً فيما تقدمه الفلسفة لنا من مساعدات كبيرة تزيد من قدرتنا على فهم التربية، فالفلسفة تقوم بتوضيح المفاهيم التربوية الأساسية وتحديد المصطلحات الرئيسية في علم التربية، كالذكاء والدافعية ومفهوم التربية نفسه والميل والاتجاه وغيرها، كما تقوم بدراسة وتحليل المسلمات التي تقوم عليها النظريات التربوية، كل ذلك بقصد توجيه العمل التربوي وحل مشكلاته في الواقع الميداني، ومن خلال التطبيق يظهر ما قد يكون في الفكر الفلسفي الموجه من ثغرات فتغذي الفلسفة بمادة لتطوير أفكارها وهكذا فإن هذه العلاقة تؤدي إلى مزيد من الفائدة والنمو المستمر لكل من التربية والفلسفة، تلك العلاقة هي التي دفعت فيلسوفاً مثل فخته Fichte  إلى أن يقول إن التربية لن تصل إلى حالة الوضوح التام بدون مساعدة الفلسفة، وأن كلاً منهما ناقص بدون الآخر.
وهكذا فإن تلك العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والتربية قدمت لنا مجالاً من الفكر يجمع بينهما في إطار واحد وهو مجال فلسفة التربية فماذا نقصد بفلسفة التربية؟


فلسفة التربية:
ونعني بفلسفة التربية ذلك النشاط الفكري المنظم التي يتخذ من الأسلوب الفلسفي وسيلة للنظرة الكلية إلى العملية التربوية بقصد تنظيمها وتوضيحها والتنسيق بين عناصرها وتوجيهها، إنها تطبيق الطريقة الفلسفية في النظر إلى  قضايا التربية، ويرى البعض أن فلسفة التربية جهد منظم لإعادة بناء النظام التعليمي وفقاً لحاجات ومتغيرات المجتمع المعاصر.
ويعرف فينكس فلسفة التربية بأنها "البحث عن مفاهيم عامة توجد الاتساق بين المظاهر المختلفة للعملية التربوية في خطة متكاملة شاملة تتضمن توضيحاً للمعاني التي تقوم عليها التعبيرات التربوية وشرحاً للقواعد الأساسية التي تقوم عليها الأفكار أو النظريات التربوية.
ويعرفها أوكونور أنها الدراسة التحليلية الناقدة لمجموعة القيم والمثل العليا التي تتضمنها الأهداف التربوية
ويبدو من هذه التعريفات السابقة لفلسفة التربية اهتمام المفكرين بإبراز الأساس الفلسفي وأهمية ارتباط فلسفة التربية بالفلسفة العامة، وهذا أمر لا نشكك في قبوله، ذلك لأنه كما أوضحنا سلفاً فإن قضايا التربية في جملتها هي قضايا فلسفية فنحن لا نستطيع أن ننتقد فلسفة تربوية أو نقترح فلسفة تربوية جديدة دون أن نأخذ في اعتبارنـا تلك المشكلات ذات الطبيعة الفلسفية العامة مثل طبيعة الحياة المرغوبة أو الصالحة للمجتمع والتي سنطلب من التربية العمل على تحقيقها وطبيعة الإنسان الذي نربيه نفسه، وطبيعة المجتمع الذي تحدث فيه عملية التربية، وطبيعة المعرفة أو الحقائق المراد تقديمها، وطبيعة الخبرات ونوع القيم وما إلى ذلك.. ولذلك ينتهي نيللر إلى أن فلسفة التربية هي تطبيق الفلسفة النظرية العامة على مجال التربية ويترتب على ذلك أن هذه الفلسفة التربوية تقوم بوظائف الفلسفة العامة، فهي تأملية تحليلية ناقدة وهي أيضاً إرشادية توجيهية.
فهي تأملية عندما تسعى لتكوين رؤية أو نظرة عن طبيعة كل من الإنسان والمجتمع والكون والحياة والمعرفة والقيم والمعرفة عن هذه المجالات لا تأتي إلا عن طريق التأمل والاجتهاد الفكري، وهي أيضاً إبداعية ابتكارية حيث يؤدي هذا التأمل الذكي الواعي إلى أفكار جديدة لبناء مجتمع أفضل وحياة أرقى للإنسان.
وهي ناقدة وتحليلية حيث تقوم بتحليل المفاهيم ودراسة المسلمات وتوضيح معاني المصطلحات التربوية، كما تقوم بتحليل الأهداف التربوية ونقدها وفق قواعد المنطق وتبعاً للقدرة على التطبيق والتحقق وتقوم بتحليل السياسات التربوية والممارسات.
وهي إرشادية توجيهية عندما تقترح غايات وأهدافاً جديدة وعندما تشير باستخدام آليات وأفكار من شأنها أن تساعد في مواجهة المشكلات التربوية بصورة أفضل وتوجيه الواقع التربوي لتحقيق أهدافه.
وإذا كانت الفلسفة التربوية وثيقة الصلة بالفلسفة العامة فإن ذلك لا يعدو أن يكون رافداً واحداً من مجموعة الروافد التي تغذي فلسفة التربية، فهي كما تعتمد على الأسلوب الفلسفي والنظريات الفلسفية في معالجتها لبعض القضايا الأساسية فإنها أيضاً أي الفلسفة التربوية، تستمد من معتقدات المجتمع الدينية والسياسية ولابد من وجود اتساق بينها وبين مجموعة المعتقدات الدينية والسياسية السائدة في المجتمع وهي كذلك ينبع من ثقافة المجتمع بمعنى عاداته وتقاليده وقيمه وتقنياته وأجهزته المادية وأحواله الاقتصادية ومؤسساته.. فهي تعبير عن ثقافة المجتمع وتصحيح لها في آن واحد، كما أنها تعكس طموحاته وآماله وأهدافه في حياة أفضل ومجتمع أرقى.
وثمة رافد رابع لفلسفة التربية وهو مستمد من نتائج البحوث العلمية في شتى نواحي العلم لأنها تفتح آفاق جديدة للمفكر التربوي وتختصر أمامه الطريق لتحديد مساره... وهكذا فإن فلسفة التربية في أي مجتمع مطالبة بالإجابة على معنى التساؤلات الرئيسية من نربي؟ وكيف نربي، ثم كيف نحدد أو ليس ما تحقق من هذا كله؟
وبناء على ما تقدم تصبح فلسفة التربية على درجة كبيرة من الأهمية لكل من له صلة بالعملية التربوية والتعليمية، فهي تزيد من فهمنا للتربية في نظرة كلية شاملة، وهي تبصرنا بجوانب الصراع بين النماذج الفكرية وأوجه الاختلاف بينها وهي تبصرنا كذلك بمدى عمق الهوة بين الفكر الموجه للتربية وبين التطبيق التربوي وهي المرجع الذي يحدد لنا غايات التربية وأهدافها، ولا شك أنه بدون وضوح الفلسفة التربوية السائدة أمام المعلم يتحول عمله إلى جهد طائش غير مأمون العواقب.
وإذا كانت القيادة السياسية في بلادنا قد جعلت من التعليم قضية قومية، وتعالت الأصوات تنادي بإصلاح التعليم فإن نقطة البداية في نظرنا تبدأ بصياغة فلسفة تربوية متكاملة جديدة تنبع من المتغيرات المحلية والعالمية المعاصرة وتستفيد من الفكر الفلسفي والطريقة الفلسفية في تحديد الأولويات والسياسات التربوية التي تمكننا من تحقيق هذا التطوير.


المراجع
1-           القرآن الكريم: سورة البقرة، آيات 31-33.
2-           أحمد أمين، زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة اليونانية، ط7، القاهرة: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1935.
3-           دي جي. أوكونور: مقدمة في فلسفة التربية، ترجمة محمد سيف الدين فهمي، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1982.
4-           ج.ف. نيللر: في فلسفة التربية، ترجمة محمد منير مرسي وآخرون، القاهرة: عالم الكتب، 1972.
5-           محمد الهادي عفيفي: في أصول التربية، الأصول الفلسفية للتربية، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1974.
6-           محمد سيف الدين فهمي: النظرية التربوية، أصولها الفلسفية والنفسية، ط1، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1980.
7-    محمد علي أبو ريان: تاريخ الفكر الفلسفي، الفلسفة اليونانية من طاليس إلى أفلاطون، ج1، ط4، الإسكندرية، دار الجامعات المصرية، 1972.
8-           محمد لبيب النجيجي: مقدمة في فلسفة التربية، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1967.
9-           محمد وجيه الصاوي: في فلسفة التربية قضايا وآراء، ط1، القاهرة: مطبعة السلام، 1993.
10-      يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1966.
11-         Brameld, Theodore, Ends and Means in Education A Mid-Century Appraisal, New York: Harper & Comp, 1950, pp.9-11.
12-         Brehier, Emile (Translated by Josef Thomas, The History of Philosophy, The Hellenic Age. Chicago: Phoenix Books the Univ. Of Chicago Press. 1965, P.36.
13-         Brubacher, John. Modern Philosophies of Education. 3rd edition. New York: McGrwa-Hill, Book Company, 1962, p.20.
14-         Russull, Bertrand.  , London: Oxford University, Press, 1975, pp. 153-154.
15-           
ن الحكمة
http://www.a13ez-net/vb/showthread.13/09/2006

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

إرسال تعليق